هل تسمح لي أن أخوض في عِرضك؟!
بقلم: علي السيار
في منطقة عشوائية فقيرة ذهبت لأحد المساجد؛ لتوصيل كتب لهذا المسجد، وبالكاد أوقفت سيارتي أمام باب المسجد، هالني دخول أحد المصلين، وهو يرتكز بقوة على مقدمة السيارة، ذُهِلت لما رأيته وصحت "مش معقول شيخنا الشيخ أحمد كان زميل دراسة، وكان يتيمًا؛ لكنه كان فتًى مدلَّلاً.. الوحيد فينا الذي يمتلك سيارة.. أمه تعيش في منطقة راقية، وتغدق عليه، وكان هو وزميلاه يأخذوننا إلى الشيخ جميل غازي- رحمه الله- لكنهم كانوا يتطاولون على الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ عمر التلمساني وغيرهما.
تفرَّست في وجهه، رأيت قتامة عجيبة وتجاعيد كثيرة، كنت أرتاح لوجهه ذي اللحية الخفيفة السمراء وطوله الفارع، فإذا بجسمه ممتلئٌ، ولحيته تكسوها ألوان بين الزرقة والسواد والبياض.
قابلته مرةً في المدينة المنورة في رمضان أثناء العمرة، وكان بعد التخرج بخمس سنوات، "ساعتها أخذته ليسمع درس الشيخ عطية سالم رحمه الله"، وجدته هذه المرة يتشبَّث بالجلوس معي، سألته: أظنك لم تنجب بعد قال: الحمد لله، مؤخرًا رُزقت بولدين؛ لكني أخاف عليهما من الحسد.. والسحر.. فابتسمت!.
سألته عن أمه، قال لي- والدموع تنساب من عينيه-: "مش عارف هاروح من ربنا فين.. لقد خضت معها صراعًا مريرًا، ومشاجرات وصلت لحد المحاكم، منها لله زوجتي المنتقبة، كنت أفضِّلها على أمي بحجة أن أمي متبرجة.. وفي النهاية، طلبت الطلاق، وأخذت مني شقتي وها أنا أسكن في هذا البيت المتهالك، لعنة الله على زوجتي، فإذا بي أضع يدي على فمه.. بلاش تكثر اللعن".
بسرعة سألته عن زميليه.. قال: "الأول في السجن"، قلت: "يا بخته السجن شرف للدعاة ووسام لهم"، قال لي: "ها ها.. دعاة... بل في قضية شيكات وتجارة.. ودنيا.... الله يلعـ"، أما الثاني فأحسن حالاً، وإن كنت سمعت مؤخرًا أنه تزوج زوجة ثانية، وطلع أقاربها في الشرطة، وأخفى عليهم زواجه الأول، وبدءوا يتعبوه...
لما رآني واجمًا، قال لي: "أتذكر عندما كنتم تنهونا، ونحن نخوض في لحوم العلماء وأعراضهم... والله كنا نتعاون مع أمن الجامعة ضدكم وكنا نشي بالنشطاء منكم... دي حقوق ناس، تعرف لما أخذتني للشيخ عطية، بدأت أتحوَّل.. أحسست أن من نسمعهم رغم أنهم ربَّونا على الشتائم والتطاول أقزام، بجوار هذا الجبل من العلم..".
سرحت كثيرًا في كل أولئك الذين تطاولوا على العلماء من معارفي وحتى أقاربي؛ حينما كنا شبابًا، كانت لنا قريبة منتقبة، تُعاير بنات الإخوان المختمرات، وتأمرهن بالنقاب، وتقول لهن في صفاقة: "أهلكم لم يعلموكم الأدب... وكان لسانها يتطاول على الشيخ حسن البنا وسيد قطب".
هذه الأخت تزوجت فعلاً رجلاً ملتحيًا؛ لكنه كان يدخن السجائر والشيشة سرًّا، وحلق لحيته الآن، وللأسف أولادها في الثانوية العامة، ويدخنون السجائر، ولا يصلون إلا قليلاً، كما أنها مرضت بما يُسمى "مس الجن".. لمدة طويلة.
حتى في الصف المسلم الصحيح تجد بعض الأفراد- وهم يعدون على أصابع اليد الواحدة- يخوضون في هذا الأمر؛ بل للأسف رأيت بعضهم يخوض في عرض الجبل الأشمّ مصطفى مشهور... عندما تفرست حياة هذا الأخ، وجدته يئنُّ من المشاكل، عفا الله عنه وعن أختنا وعن أصحابنا أحمد وزميليه، وردَّنا إلى جادة الصواب.
يقول الإمام النووي: "من خاض في لحوم العلماء يموت قلبه قبل أن يموت بدنه".. وجاء أحدهم إلى الإمام النووي يخوض في عرض عالم من العلماء، فقال له: أظنك كنت في جيش المسلمين الذي قاتل الكفار والمجوس؟! فقال: لا.. قال: أظنك قاتلت اليهود؟! قال: لا.. أظنك قاتلت النصارى؟! قال: لا، قال: كيف يسلم منك عرض هؤلاء، ولم يسلم منك عرض أخيك المسلم؟!
وهذا الإمام حسن البنا يقعِّد عدة قواعد نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه.. وينهى عن الخلاف الفقهي، ويقول: إن الخلاف لا يفسد للود قضية.
وهذا الإمام ابن تيمية عندما سألوه عن الكيلاني، فقال: إذا كثر الماء لم يؤثر فيه الخبث، رحم الله علماءنا الأجلاء.
في ندوة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1994م، وكان المتحدث الشيخ محمد قطب، قام طالب يحمل نفس السحنة، ونفس الملامح، متحدثًا بلهجته السعودية، وبكل جرأة ووقاحة، قائلاً: نحن نتقرب إلى الله بالخوض في عرض سيد قطب؛ فردَّ عليه الشيخ المربي ردًّا مهذَّبًا بصوت وقور، كله دفء وحب، بكلمات واضحة متباعدة كأنه يعد حروفها قبل أن تخرج.
ونحن.. آل سيد.. نتقرب إلى الله.. بالصفح عنكم، وصون أعراضكم..!!
وما أن انتهى من كلامه، وعمَّ صمتٌ مطبقٌ بالقاعة، لا تسمع إلا نحيبًا وبكاءً خافتًا، أو تنهيدةً وزفرةً.
أخذت أمسح دموعي، وقد انسابت بالفعل مع أول حرف نطق به الشيخ، ولم أحس بنفسي إلا وأنا خارج المبنى؛ أردِّد المقولة: ونحن آل سيد قطب.. ونحن آل حسن البنا.. مهمتنا هي البناء لا الهدم.
...........................................................................................................
اذا فات الفوت ما ينفع الصوت.
وقال الامام الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخى وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
)إنك لن تزال سالما ما سكت فإذا تكلمت كتب لك أو عليك(
كثير من هؤلاء تعتريه الفتن قبل موته، ولا يهديه الله سبيلا، ويتحسر على ما فات، كيف لا وقد قضى 10-20 سنة في أكل لحوم العلماء.
اللهم سلمنا من لحوم العلماء والدعاة.
يُنقل عن الشيخ سعيد حوى رحمه الله أن ألقى محاضرة وبعد أن انتهى منها قام أحدهم وقال: يا شيخ سعيد أحصيت عليك سبعة أخطاء، فقال الشيخ بلهجة واثقة متواضعة "فقط؟ والله إنها لمفخرة أن يُحسب على سعيد حوى 7 أخطاء في محاضرة"... غير متأكد من الرقم هذا حسب ذاكرتي.
كل من رأيته أوغر صدرا ضد العلماء في أيام الجامعة هو بين أحد اثنين، يا أما ترك طريق الدعوة بل وانحرف، أو انه استقام وترك هذا الأمر.
ونعم بك من أخ
لو ذكرتنا كل شهر بمثل هذا الكلام الذي أضعه في المرتبة الأولى الآن من حيث حاجتنا إليه.
موضوع: هل تسمح لي أن أخوض في عرضك.... 
الإثنين 3 أغسطس 2009 - 3:03
موضوع مفيد مشكور 
